عندما فَقدَت نَبضُ .. نبضها الكاتبة : الأستاذة نبض السورية

عندما فَقدَت نَبضُ .. نبضها الكاتبة : الأستاذة نبض السورية

عندما فَقدَت نَبضُ .. نبضها الكاتبة : الأستاذة نبض السورية


كانتْ نَبض في مُقتبِلِ العمر ، تدرسُ في الصف الأول الثانوي في مدرستها ، في تلكَ البلد التي أصابتها لعنةُ الحرب ..
كانت لنبض صديقة تُدعى " حَلا " .. تُشاركها البلد والمدينة والمدرسة والصف والمقعد ، كانت حلا بالنسبة لنبض .." نَبضها " ، بيتُ أسرارها وأنيسةُ وحدتها .
كانت نبض تنتظر حلا كلَّ يوم عند تلكَ الحديقة التي تعتبر أول نقطة التقاء لهما بعد مفرق منازلهما ، وتكملان الطريق معاً إلى المدرسة .. وتعود حلا ونبض بذات الخطوات بعد انتهاء الدوام ..
اعتادت كلٌّ من نبض و حلا على السيرِ معاً .. وتعاهدتا على أن لا تفرقهما الحياة .. رسمتا أحلاماً وردية ، وخططتا لمستقبلهما سويةً .
في يومٍ من الأيام رنَّ الجرسُ معلناً نهاية الدوام في المدرسة ، لكن نبض ما أن سمعت الجرس حتى شعرت أن قلبها يرتجف ، شعرت أن هذا الجرس ما كان كسابقه من الأيام ، وهي التي كانت تنتظر رنته لتذهب لمنزلها .. في ذاكَ اليوم انقبض قلبها وكأنها تقول : أرجوك لا ، أرجوك لا ترن اليوم ، لا أريد أن ينتهي دوامُ اليوم .. لكن نبض لم تكن تدري ما سبب انقباض قلبها ..
أمسكتْ نبض حلا بيدها وحملتا حقائبهما وخرجتا كعادتهما . 
حلا مُشرقة ، مبتسمة ، ضاحكة ، وجهها يضجُ بملامحها الملائكية ، تمشي على الأرض وكأنها فراشة لا ظل لها من خفة روحها ..
أما نبض فكانت تتأمل حلا وكأنها تراها لأول مرة في حياتها ، تشعر وكأن جبلاً قد تموضع على صدرها ، لم تكن تسمع ضجيج الشوارع والسيارات ، جُلّ ما تراه حلا .. حلا فقط ..
استمرت نبض وحلا بالسير ولأول مرة لا يتشاركان الشعور ذاته فلكلٍ منها في تلك اللحظة شعورها ..
وصلتا إلى الحديقة ، وهنا كل ما سمعته نبض ( هذا فراقُ بيني وبينك ) لم تدرك حينها نبض لمَ وردت هذه الآية إلى ذهنها .. لكنها كانت ترفض أن تتبع احساسها الصعب هذا ..
حلا : ها قد وصلنا للحديقة يا نبض ، تريدين مني شيء قبل أن أذهب ؟
نبض : سلامتكِ يا حلا ، لا أريد سوى سلامتكِ 
حلا : نلتقي غداً يا نبض 
نبض : لا أشعر أننا سنلتقي . 
حلا : ماذا تقصدين يا نبض ؟
نبض : هاا .. لا شيء لا شيء لكن أفكر أن لا أحضر للمدرسة غداً .
حلا : إن لم تأتِ أنتِ فلن آتي أنا .
نبض : حسناً .. نتكلم مساءً ..
حلا : هيا لقد تأخرت ، أشتقت لأمي كثيراً .
نبض : هيا وأنا أيضاً عليّ الذهاب .
توجهتْ كل منهما إلى مفرقها .. لم تبتعد نبض سوى سبعُ خطواتٍ بالضبط حتى سَمِعَتْ صوت ذلك الانفجار اللئيم الذي لا قلبَ له .. حينها تجمَّدت نبض ، لم تستطع حتى الالتفات أو دعونا نقول أنها لم تُريد أن تلتفت ، لأنها وقبل أن تلتفت كانت تشم رائحة فراشتها حلا قد عمَّت في المكان ..
أصواتٌ كثيرة في رأس نبض وهي لا تزال متجمِّدة ، سيارة إسعاف ، أصواتُ هلع الناس ، تحذيرات من الاقتراب .. 
كل هذا لم يقف أمام نبض في أن تلتفت خلفها ، لترى تلك الصورة التي لا زالت إلى الآن عالقةً في ذهنها وقلبها . 
ركضَتْ نبض نحو حلا .. كانت حلا نائمة .. نائمة حرفياً ، مبتسمة ، تفوح منها رائحة وردة الياسمين الدمشقية ، لم تُخدَش ملامحها الملائكية إنما ازدادت براءة وطفولة ، نظرَتْ نبض إلى كتبها و حقيبتها وأشياءها وأخذت ترتبهم كي لا تتعب حلا في ترتيبهم ، أنهَتْ ترتيب الأشياء وأعادتهم للحقيبة وأخذَتْ توقظ حلا ..
نبض : هيّا حلا لقد رتبت كتبكِ ودفاتركِ وأعدتهم إلى حقيبتكِ ، أعلمُ أنكِ كسولة فلقد اعتدتِ أن تنسي أدواتكِ واعتدت أن أركض خلفك أذكركِ بها .. هيّا استيقظي أمكِ بانتظارك ، أمامنا امتحان اللغة الإنكليزية غداً .. مادتكِ المفضلة ، هيّا انهضي يا حلا لا تتظاهري بالنوم ، أوووه حلا هيّا انهضي سأشتري لك الحلويات والشوكولا  التي تحبينها ، هيّا حلا أمكِ تتصل بكِ لقد تأخرتِ .. نظرَتْ نبض حولها فإذ ببركةٍ حمراء حولها .. حينها أدركَتْ نبض أن حلا ليست نائمة ، أخذت نبض هاتف حَلا وأجابَتْ على اتصال والدتها ..نبض : أهلاً أمي 
والدة حلا : أين حلا ! لمَ لم تُجِب على هاتفها ؟ 
نبض : أمي قولي "إنا لله وإنا إليه لراجعون " 
والدة حلا :بصوتٍ يرتجف .. أين حلاااا ؟ 
نبض : حلا في مكانها الأحق بوجهها الملائكي .
والدة حلا : هي في المكتبة صحيح ؟ آه تلكَ الشقية تعشق الكتب .
نبض : لا يا أمي ، حلا في مكان أجمل بكثير .
والدة حلا : بصوت مُختنق وحروفٍ غير واضحة ، هل الانفجار قريب منكن ؟ 
نبض : أمي قلت لك قولي *إنا لله وإنا إليه لراجعون * حلا لَحِقَت بقافلة الشهداء . 
والدة حلا : ههههه يا إلهي كم أنكِ مهضومة يا نبض .
نبض : ها قد وصلت سيارة الإسعاف ، آتيةٌ لكِ أنا وحلا .. جهزي الورود لاستقبال شهيدتنا .أغلقَتْ نبض المكالمة ورافقت حلا إلى منزلها في تلك السيارة المُعتمة ممسكة بيد حلا الباردة .وصلَتْ نبض إلى منزل حلا لتنزل حلا مُحَمّلةً في سريرٍ بين أيادي المسعفين ..فتحت والدة حلا الباب تنظر إلى نبض وكأنها تقول ألم تكن مزحة كعادتكِ ؟ وركضَتْ والدة حلا إلى حلا تحاول إيقاظها .. جَلسَت نبض بجانبها تقول لها حاولتُ كثيراً لكن اعتقد أن حلا في مكان أجمل لذلك لا تود أن تستيقظ ..
دُفِنَتْ حلا ، وأخذت معها كل الضحكات ، أخذت نبضَ نبض ، أخذت الأحلام معها والسعادة ، أخذت معها كل ما هو جميل . وبقي السؤال في ذهن نبض " كيف لحلا أن تأخذ  كل الحياة معها ؟ " كيف لي أن أعيش على كوكب لا حلا فيه ؟
معلومات مصدر القصة 
الكاتبة : الأستاذة نبض السورية

تعليقات